الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
ولما رحل صلاح الدين عن حلب وقد وقع من الإسماعيلية على حصن إعزاز ما وقع قصد بلادهم في محرم سنة اثنتين وتسعين ونهبها وخربها وحاصر قلعة مصياف ونصب عليها المجانيق. وبعث سنان مقدم الإسماعيلية بالشام إلى شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم ويتوعده بالقتل فشفع فيهم وأرحل العساكر عنهم. وقدم عليه أخوه توران شاه من اليمن بعد فتحه وإظهار دعوتهم فيه وولى على مدنه وأمصاره فاستخلفه صلاح الدين على دمشق وسار إلى مصر لطول عهده بها أبو الحسن بن سنان بن سقمان بن محمد. ولما وصل إليها أمر بإدارة سور على مصر القاهرة والقلعة التي بالجبل دورة تسعة وعشرون ألف ذراع بالهاشمي. واتصل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين وكان متولي النظر غزوات بين المسلمين والإفرنج كان شمس الدين محمد بن المقدم صاحب بعلبك وأغار جمع من الإفرنج على البقاع من أعمال حلب فسار إليهم وأكمن لهم في الغياض حتى نال منهم وفتك فيهم. وبعث إلى صلاح الدين بمائتي أسير منهم وقارن ذلك وصول شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أن جمعاً من الإفرنج أغاروا على أعمال دمشق فسار إليهم ولقيهم بالمروج فلم يثبت وهزموه وأسر سيف الدين أبو بكر بن السلام من أعيان الجند بدمشق وتجاسر الإفرنج على تلك الولاية. ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الإفرنج فبعثوا في الهدنة وأجابهم إليها وعقد لهم والله تعالى ولي التوفيق.
ثم سار صلاح الدين من مصر في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى ساحل الشام لغزو بلاد الإفرنج وانتهى إلى عسقلان فاكتسح أعمالها ولم يروا للإفرنج خبراً فانساحوا في البلاد وانقلبوا إلى الرملة فما راعهم إلا الإفرنج مقبلين في جموعهم وأبطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فثبت في موقفه واشتد القتال. وأبلى يومئذ محمد ابن أخيه في المدافعة عنه وقتل من أصحابه جماعة. وكان لتقي الدين بن شاه ابن اسمه أحمد متكامل الخلال لم يطر شاربه. فأبلى يومئذ واستشهد وتمت الهزيمة على المسلمين. وكان بعض الإفرنج تخلصوا إلى صلاح الدين فقتل بين يديه وعاد منهزماً وأسر الفقيه عيسى الهكاري بعد أن أبلى يومئذ بلاء شديداً. وسار صلاح الدين حتى غشيه الليل. ثم دخل البرية في فل قليل إلى مصر ولحقهم الجهد والعطش ودخل إلى القاهرة منتصف جمادى الأخيرة. قال ابن الأثير ورأيت كتابه إلى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة ذكرتك والخطي يخطر بيننا وقد فتكت فينا المثقفة السمر ومن فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما نجانا الله سبحانه منه إلا لأمر يريده وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر انتهى. وأما السرايا التي دخلت بلاد الإفرنج فتقسمهم القتل والأسر وأما الفقيه عيسى الهكاري فلما ولي منهزماً ومعه أخوه الظهير ضل عن الطريق ومعهما جماعة من أصحابهما فأسروا. وفداه صلاح الدين بعد ذلك بستين ألف دينار والله تعالى أعلم. حصار الإفرنج مدينة حماة ثم وصل في جمادى الأولى إلى ساحل الشام زعيم من طواغيت الإفرنج وقارن وصوله هزيمة صلاح الدين. وعاد إلى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة من العسكر وهو مع ذلك منهمك في ملذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج الشام وبذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة وبها شهاب الدين ومحمود الحارمي خال صلاح الدين مريضاً. وشد حصارها وقتالها حتى أشرف في أخذها. وهجموا يوماً على البلد وملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون وأخرجوهم ومنعوا حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام وساروا إلى حارم فحاصروها. ولما رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمي ولم يزل الإفرنج على حارم يحاصرونها وأطمعهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمستكين الخادم كافل دولته. ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها. ثم عاد الإفرنج إلى مدينة حماة في ربيع سنة أربع وسبعين فعاثوا في نواحيها واكتسحوا أعمالها وخرج العسكر حامية البلد إليهم فهزموهم واستردوا ما أخذوا من السواد وبعثوا بالرؤوس والأسرى إلى صلاح الدين وهو بظاهر حمص منقلباً من الشام فأمر بقتل الأسرى والله تعالى ولي التوفيق.
كان صلاح الدين لما ملك بعلبك استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق وكان شمس الدولة محمد أخو صلاح الدين ناشئاً في ظل أخيه وكفالته فكان يميل إليه وطلب منه أقطاع بعلبك فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فأبى. وذكره عهده في أمر دمشق فسار ابن المقدم إلى بعلبك وامتنع فيها ونازلته العساكر فامتنع وطاولوه حتى بعث إلى صلاح الدين يطلب العوض فعوضه عنها. وسار أخوه شمس الدين إليها فملكها والله تعالى ولي التوفيق. وقائع من الإفرنج وفي سنة أربع وسبعين سار ملك الإفرنج في عسكر عظيم فأغار على أعمال دمشق واكتسحها وأثخن فيها قتلاً وسبياً. وأرسل صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه في العساكر لمدافعته فسار يطلبهم ولقيهم على غير استعداد فقاتل أشد القتال. ونصر الله المسلمين وقتل جماعة من زعماء الإفرنج منهم هنفري وكان يضرب به المثل. ثم أغار البرنس صاحب إنطاكية واللاذقية على صرح المسلمين بشيزر وكان صلاح الدين على بانياس لتخريب حصن الإفرنج بمخاضة الأضرار فبعث تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وناصر الدين محمد إلى حمص لحماية البلد من العدو كما نذكره إن شاء الله تعالى. تخريب حصن الإفرنج كان الإفرنج قد اتخذوا حصناً منيعاً بقرب بانياس عند بيت يعقوب عليه السلام ويسمى مكانه مخاضة الأضرار فسار صلاح الدين من دمشق إلى بانياس سنة خمس وسبعين وأقام بها وبث فيها الغارات على بلادهم. ثم سار إلى الحصن فحاصره ليختبره وعاد عنه إلى اجتماع العساكر وبث السرايا في بلاد الإفرنج للغارة. وجاء ملك الإفرنج للغارة على سريته ومعه جماعة من عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم وهم يقتتلون فهزم الإفرنج وأثخن فيهم. ونجا ملكهم في فل وأسر صاحب الرملة ونابلس منهم وكان رديف ملكهم. وأسر أخوه صاحب جبيل وطبرية ومقدم الفداوية ومقدم الاسبتارية وغيرهم من طواغيتهم. وفادى صاحب الرملة نفسه وهو أرتيرزان بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير من المسلمين. وأبلى في هذا اليوم عز الدين فرخشان ابن أخي صلاح الدين بلاء حسناً. ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس وبث السرايا في بلاد الإفرنج وسار لحصار الحصن فقاتله قتالاً شديداً. وتسلم المسلمون سوره حتى ملكوا برجاً منه. وكان مدد الإفرنج بطبرية والمسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد ونقبوا السور وأضرموا فيه النار فسقط. وملك المسلمون الحصن عنوة آخر ربيع سنة خمس وسبعين وأسروا كل من فيه. وأمر صلاح الدين بهدم الحصن فألحق بالأرض وبلغ الخبر إلى الإفرنج وهم مجتمعون بطبرية لإمداده فافترقوا وانهزم الإفرنج والله سبحانه وتعالى أعلم. الفتنة بين صلاح الدين وقليج أرسلان صاحب الروم كان حصن زغبان من شمالي حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم وهو بيد شمس الدين ابن المقدم. فلما انقطع حصن زغبان عن إيالة صلاح الدين وراء حلب طمع قليج أرسلان في استرجاعه فبعث إليه عسكراً يحاصرونه. وبعث صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه في عسكر لمدافعتهم فلقيهم وهزمهم وعاد إلى عمه صلاح الدين. ولم يحضر معه تخريب حصن الأضرار. وكان نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود صاحب حصن كيفا وآمد وغيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه وبين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بسبب أضراره ببنته وزواجه عليها. واعتزم قليج أرسلان على حربه وأخذ بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين وبعث إلى قليج أرسلان يشفع في شأنه فطلب استرجاع حصونه التي أعطاها لنور الدين عند المصاهرة. ولج في ذلك صلاح الدين على قليج وسار إلى زغبان ومر بحلب فتركها ذات الشمال وسلك على تل باشر. ولما انتهى إلى زغبان جاءه نور الدين محمود وأقام عنده. وأرسل إليه قليج أرسلان يصف فعل نور الدين وإضراره ببنته. فلما أذى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين وتوعدهم بالمسير إلى بلده فتركه الرسول حتى سكن. وعدا عليه فطلب الخلوة وتلطف له في فسخ ما هو فيه من ترك الغزو ونفقة الأموال في هذا الغرض الحقير وأن بنت قليج أرسلان يجب على مثلك من الملوك الإمتعاض لها ولا تترك المضارة من دونها فعلم صلاح الدين الحق فيما قاله. وقال للرسول أن نور الدين استند إلى فعلك فأصلح الأمر بينهما وأنا معين على ما تحبونه جميعاً ففعل الرسول ذلك وأصلح بينهما. وعاد صلاح الدين إلى الشام ونور الدين محمود إلى ديار بكر وطلق ضرة بنت قليج أرسلان بالأجل الذي أجله للرسول والله تعالى أعلم.
كان قليج بن اليون من ملوك الأرض صاحب الدروب المجاورة لحلب وكان نور الدين محمود قد استخدمه وأقطع له في الشام. وكان يعسكره معه وكان جريئاً صاحب القسطنطينية. وملك وادقة والمصيصة وطرطوس من يد الروم وكانت بينهما من أجل ذلك حروب. ولما توفي نور الدين وانتقضت دولته أقام ابن اليون في بلاده وكان التركمان يحتاجون إلى رعي مواشيهم بأرضه على حصانتها وصعوبة مضايقها. وكان يأذن لهم فيدخلونها. وغدر بهم في بعض السنين واستباحهم واستاق مواشيهم. وبلغ الخبر إلى صلاح الدين منصرفه من زغبان فقصد بلده ونزل النهر الأسود. وبث الغارات ني بلادهم واكتسحها وكان لابن إليون حصن وفيه. ذخيرته فخشي عليه فقصد تخريبه. وسابقه إليه صلاح الدين فغنم ما فيه وبعث إليه ابن اليون برد ما أخذ من التركمان وإطلاق أسراهم على الصلح والرجوع عنه. فأجابه إلى ذلك وعاد عنه في منتصف سنة خمس وسبعين والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. كان البرنس أرناط صاحب الكرك من مردة الإفرنج وشياطينهم وهو الذي اختط مدينة الكرك. وقلعتها ولم تكن هنالك. واعتزم على غزو المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. وسمع عز الدين فرخشاه بذلك وهو بدمشق فجمع وسار إلى الكرك سنة سبع وسبعين كل واكتسح نواحيه وأقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله وعاد إلى الكرك. فعاد فرخشاه إلى دمشق والله تعالى أعلم بغيبه.
قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن واستيلاؤه عليه سنة ثمان وستين. وأنه ولي على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر وعلى عدن عز الدولة عثمان الزنجبيلي واختط مدينة تعز في بلاد اليمن واتخذها. كرسياً لملكه. ثم عاد إلى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفاً من حصار حلب فولاه على دمشق وسار إلى مصر. ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الإسكندرية وأقطعه إياها مضافة إلى أعمال اليمن. وكانت الأموال تحمل إليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن. ومع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية وتوفي سنة ست وسبعين فقضاها عنه صلاح الدين. ولما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر واستخلف على دمشق عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه. وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني نائبه بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الأموال فنزع إلى وطنه واستأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء. واستأذن أخاه عطاف بن زبيد وأقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقي في خدمة صلاح الدين. وكان محشداً فسعى فيه عنده أنه احتجز أموال اليمن ولم يعرض له فتحيل أعداؤه عليه. وكان ينزل بالعدوية قرب مصر فصنع في بعض الأيام صنيعاً دعي أعيان الدولة واختلف مواليه وخدامه إلى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين أنه هارب إلى اليمن. فتمت حيلتهم فقبض عليه. ثم ضاق عليه الحال وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعلى لأهل الدولة فأطلقه وأعاده إلى منزلته فلما بلغ شمس الدين إلى اليمن اختلف نوابه بها حطان بن منقذ وعثمان بن الزنجبيلي. وخشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من أمرائه إلى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من أمرائه. فساروا لذلك سنة سبع وسبعين واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ. ثم مات قريباً فعاد حطان إلى زبيد وأطاعه الناس وقوي على عثمان الزنجبيلي فكتب عثمان إلى صلاح الدين أن يبعث فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغركين فسار إلى اليمن وخرج حطان بن منقذ من زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الإسلام زبيد وبعث إلى حطان بالأمان فنزله إليه وأولاه الإحسان. ثم طلق اللحاق بالشام فمنعه. ثم ألح عليه فأذن له حتى إذا خرج واحتمل رواحله وجاء ليودعه قبض عليه واستولى على ما معه. ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به. ويقال كان فيما أخذه سبعون حملاً من الذهب. ولما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام. وبقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام فاستولى عليها. ولم يخلض إلا بما كان معه في طريقه وصفا اليمن لسيف الإسلام والله تعالى أعلم. دخول قلعة البيرة في إيالة صلاح الدين وغزوة الإفرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيف والغرر و بيروت كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن أرتق وهو ابن عم قطب الدين الغازي بن أرتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام. ثم مات وملك البيرة بعده ابنه. ومات نور الدين فصار إلى طاعة عز الدين مسعود الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق ما وقع وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره إلى قلعة سميساط وأقام بها وبعث العسكر إلى البيرة وحاصرها. وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين إلى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه وشغل عنه بأمر الإفرنج. ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها إلى صلاح الدين وأعطاه طاعته وعاد في إيالته. ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرم سنة ثمان وسبعين قاصداً الشام ومر بإيله وجمع الإفرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك إلى دمشق ومال عن بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشوبك وعاد إلى دمشق منتصف صفر. وكان الإفرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخشاه نائب دمشق إليها واكتسح نواحيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلاً وسبياً وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث إلى صلاح الدين بفتحه فسر بذلك. ثم أراح صلاح بدمشق أياماً وسار في ربيع الأول من السنة وقصد طبرية وخيم بالأردن. واجتمعت الإفرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه إلى بيسان فملكها عنوة واستباحها. وأغار على الغور فأثخن فيها قتلاً وسبياً. وسار الإفرنج من طبرية إلى جبل كوكب وتقدم صلاح الدين إليهم بعساكره فتحصوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الإفرنج قتالاً شديداً. ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين إلى دمشق. ثم سار إلى بيروت فاكتسح نواحيها وكان قد استدعى الأسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أياماً. ثم بلغه أن البحر قد قذف بدمياط مركباً للإفرنج فيه جماعة منهم جاؤوا لزيارة القدس فألقتهم الريح بدمياط وأسر منهم ألف وستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت إلى الجزيرة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
على حران والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستولياً في دولة مودود وبنيه وانتقل آخراً إلى إربل ومات بها. وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين وكان هواه مع صلاح الدين يؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت وأطمعه في البلاد واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت مورياً بحلب وقصد الفرات ولقيه مظفر الدين وساروا إلى البيرة وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين إلى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته. فلما عبر الفرات عادوا إلى الموصل وبعثوا حامية إلى الرها. وكاتب صلاح الدين ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها والمقاربة. ووعد نور الدين محموداً صاحب كيفا أنه يملكه آمد. ووصل إليه فساروا إلى مدينة الرها فحاصروها وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفراني. واشتد عليه القتال فاستأمن إلى صلاح الدين وملكه المدينة وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الذي بها مال شرطه فأضافها صلاح الدين إلى مظفر الدين مع حران وساروا إلى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها إلى الموصل وملكها صلاح الدين. ثم سار إلى قرقيسيا ومأسكين وعربان وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها. وسار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها وحاصر القلعة أياماً ثم ملكها وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين. ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزماً على قصد الموصل. وجاءه الخبر بأن الإفرنج أغاروا على نواحي دمشق واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب داريا قتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل وقد جمع صاحبها العساكر واستعد للحصار وخلى نائبه في الإستعداد. وبعث إلى سنجار وإربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالإمداد من الرجال والسلاح والأموال وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها وتقدم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد البلد وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فإنهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل. ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره ونزل عليه أول رجب على باب كندة وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادي وقاتلهم فلم يظفر. وخرج بعض الرجال فنالوا منه. ونصب منجنيقاً فنصبوا عليه من البلد تسعة. ثم خرجوا إليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير. وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لأنه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون. وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم وقد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح. وترددت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين رد ما أخذه من بلادهم فأجاب. على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع إلى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضاً. ثم وصلت أيضاً رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن الموصل وسار إليها وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر. وبعث إليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مدداً وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته. وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج عسكره معه إلى الموصل. وملك صلاح الدين سنجار وولي عليها سعد الدين بن معين الدين الذي كان أبوه عند كامل بن طغركين بدمشق. وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة. وسار صلاح الدين إلى نصيبين فشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم واستصحبه معه وسار إلى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين. وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه والله أعلم.
كان عز الدين قد أرسل إلى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث إليه عدة رسل شافعاً في أمره فلم يشفعه وغالطه فبعث إليه مولاه آخراً سيف الدين بكتمر وهو على سنجار يسأله في الإفراج عنها فلم يجبه إلى ذلك. وسوفه رجاء أن يفوتها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه وفارقه مغاضباً ولم يقبل صلته وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط إلى ماردين وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته وهو قطب الدين نجم الدين. وسار إليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل. وكان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار. وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقي الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة ورحل إلى رأس عين فافترق القوم وعاد كل إلى بلده. وقصد صلاح الدين ماردين فأقام واقعة الإفرنج في بحر السويس كان البرنس أرناط صاحب الكرك قد أنشأ أسطولاً مفصلاً وحمل أجزاءه إلى صاحب أيلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة وقذفه في السويس وشحنه بالمقاتلة وأقلعوا في البحر. ففرقة أقاموا على حصن أيلة يحاصرونه وفرقة ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز وأخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار. وطرق الناس منهم بلية لم يعرفونها لأنه لم يعهد ببحر السويس إفرنجي محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائباً عن أخيه صلاح الدين فعمر أسطولاً وشحنه بالمقاتلة وسار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الأساطيل بديار مصر فبدأ بأسطول الإفرنج الذي يحاصر أيلة فمزقهم كل ممزق. وبعد الظفر بهم أقلع في طلب الآخرين وانتهى إلى عيذاب فلم يجدهم فرجع إلى رابغ وأدركهم بساحل الحوراء وكانوا عازمين على طروق الحرمين واليمن والإغارة على الحاج. فلما أظل عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا بالتغلب وتراموا على الحوراء وأسلموا إليها واعتصموا بشعابها. ونزل لؤلؤ من مراكبه وجمع خيل الأعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم وقتل أكثرهم وأسر الباقين فأرسل بعضهم إلى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين إلى مصر والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء. ثم توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه. وخرج من دمشق غازياً الإفرنج وطرقه المرض. وعاد فتوفي في جمادى سنة ثمان وسبعين. وبلغ خبره صلاح الدين وقد عبر الفرات إلى الجزيرة والموصل فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق وجعله نائباً فيها واستمر لشأنه والله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده.
قد تقدم لنا مسير صلاح الدين إلى ماردين وإقامته عليها أياماً من نواحيها ثم ارتحل عنها إلى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها وكانت غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء وكان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكاسبهم. وكتب إليهم صلاح الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه ونقب السور من خارج بيت ابن بيسان وأخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل إليه صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرحلة فأجابه صلاح الدين وملك البلد في عاشوراء سنة تسع وسبعين. وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل إليها ذخيرته فلم يلتفت الناس إليه وتعذر عليه أمره فبعث إلى صلاح الدين يسأله الإعانة فأمر له بالدواب والرجال فنقل في الأيام الثلاثة كثيراً من موجوده. ومنع بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي. ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها لنفسه فأبى. وقال ما كنت لأعطي الأصل وأبخل بالفرع ودخل نور الدين البلد ودعا صلاح الدين وأمراءه إلى صنيع صنعه لهم وقدم لهم من التحف والهدايا ما يليق بهم وعاد صلاح الدين والله تعالى أعلم.
ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار إلى أعمال حلب فحاصر تل خالد ونصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرم سنة تسع وسبعين. ثم سار إلى عنتاب فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين العادل وصاحبه. وهو الذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرها بيده ويكون في طاعته فأجابه إلى ذلك وحلف له. وسار في خدمته وغنم المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار أسطول مصر فلقي في البحر مركباً فيه نحو ستمائة من الإفرنج بالسلاح والأموال قاصدون الإفرنج بالشام فظفروا بهم وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين. ومنها في البر أغار بالدارون جماعة من الإفرنج ولحقهم المسلمون بأيلة واتبعوهم إلى العسيلة وعطش المسلمون فأنزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا. وقاتلوا الإفرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم واستقاموا معهم وعادوا سالمين إلى مصر والله أعلم.
كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب لم يبق له من الشام غيرها وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع نائبه مجاهد الدين قايماز إليها فملكها. طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار إلى ذلك وأخذ عز الدين سنجار وعاد إلى الموصل. وسار عماد الدين إلى حلب فملكها وعظم ذلك على صلاح الدين وخشي أن يسير منها إلى دمشق. وكان بمصر سار إلى الشام وسار منها إلى الجزيرة وملك ما ملك منها وحاصر الموصل ثم حاصر آمد وملكها. ثم سار إلى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب. ثم سار حلب وحاصرها في محرم سنة تسع وسبعين ونزل الميدان الأخضر أياماً. ثم انتقل إلى جبل جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال ويراوحها وطلب عماد الدين جنده في العطاء وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين. وأرسل إليه في ذلك الأمر طومان الباروقي وكان يميل إلى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة والخابور وينزل له عن حلب. وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة إلى هذه البلاد. ودخل صلاح الدين حلب بعد أن شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد. ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد. ولما ملك صلاح الدين حلب سار إلى قلعة خارم وبها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل وكان عليها ابنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده وترددت الرسل بينهم وهو يمنع وقد أرسل إلى الإفرنج يدعوهم للانجاد وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به وحبسوه. واستأمنوا إلى صلاح الدين فملك الحصن وولى عليه بعض خواصه. وقطع تل خالد الباروقي صاحب تل باشر. وأما قلعة إعزاز فإن عماد الدين إسماعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار وأقام بحلب إلى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها وسار إلى دمشق والله تعالى أعلم.
|